مفهوم الاستطاعة شرعًا: دراسة تأصيلية شاملة

تمهيد

يشكّل مفهوم “الاستطاعة” أحد المفاهيم الجوهرية في الفقه الإسلامي، حيث يتصل اتصالًا مباشرًا بالتكليف والعبادات، ويؤثر في فهم شروط الوجوب، ويمتد أثره إلى مجالات متعددة في الفقه كالصلاة، الصيام، الزكاة، والحج، بل وحتى في المعاملات والحدود. فالاستطاعة ليست فقط قدرةً جسدية أو مادية، بل هي مفهوم أوسع وأكثر تعقيدًا يربط بين القدرة، التمكين، وإرادة الله تعالى. يُعد التمييز بين من يملك الاستطاعة ومن لا يملكها أمرًا بالغ الأهمية في تقرير أحكام التكليف، خصوصًا في العبادات التي تشترط توفرها، مثل الحج، الذي لا يجب إلا على من استطاع إليه سبيلًا. ومن هنا تتضح أهمية هذا المفهوم في النظام التشريعي الإسلامي.

أولًا: تعريف الاستطاعة في اللغة والاصطلاح

المعنى اللغوي:

الاستطاعة لغةً مأخوذة من مادة “طَوَعَ”، وتدل على التمكن والقدرة على الفعل. يُقال: “استطاع الشيء” أي قدر عليه، و”استطاع إليه سبيلًا” أي تمكن من بلوغه.

المعنى الاصطلاحي:

أما اصطلاحًا، فقد عرّفها العلماء بأنها: قدرة العبد على الفعل من غير مشقةٍ شديدة، أو موانع خارجة عن الإرادة. وتختلف تفاصيل هذا التعريف بحسب السياق الفقهي، إذ يضيق أو يتسع بناءً على نوع التكليف ومجاله. فالاستطاعة في باب العبادات تختلف عن الاستطاعة في باب المعاملات أو الجهاد، لكنها في كل الأحوال ترتبط بمبدأ أساسي في الشريعة وهو رفع الحرج.

ثانيًا: مشروعية الاستطاعة وأهميتها في التشريع الإسلامي

الاستطاعة أصلٌ قرآنيٌ صريح، جاء ذكرها في مواضع عديدة، وأبرزها في قوله تعالى:

﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97].

كما جاء في قوله تعالى:

﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]،

وقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق: 7].

كل هذه الآيات تؤسس لمبدأ الاستطاعة كشرط للتكليف، وتدل على أن الله لا يُكلّف الإنسان فوق ما يستطيع، وهذا يدل على رحمة الشريعة، ومراعاتها لأحوال العباد وظروفهم المتغيرة.

ثالثًا: أنواع الاستطاعة في الفقه الإسلامي

1. الاستطاعة البدنية:

وتعني قدرة الإنسان الجسدية على أداء العبادة أو الفعل، مثل القدرة على القيام للصلاة، أو الصيام دون مرض، أو تحمل مشقة السفر إلى الحج.

2. الاستطاعة المالية:

وتعني وجود المال الزائد عن الحاجات الأساسية الذي يمكن الإنسان من أداء بعض التكاليف، مثل الزكاة أو نفقات الحج أو الجهاد.

3. الاستطاعة الزمنية:

وتتمثل في وجود وقت كافٍ لأداء العبادة، فلا يُكلّف المكلف بأداء عبادة في وقت لا يسعه أداؤها، كمن أدرك وقت الصلاة بعد نهايتها.

4. الاستطاعة الشرعية:

وتشير إلى غياب الموانع الشرعية التي تمنع من أداء الفعل، مثل الحيض أو النفاس بالنسبة للنساء في الصلاة والصيام، أو وجود دين حال يمنع من الحج.

5. الاستطاعة الأمنية:

وهي شرط خاص في العبادات التي تستلزم السفر أو الانتقال، مثل الحج، حيث يشترط الأمن من الخطر في الطريق.

رابعًا: الاستطاعة وعلاقتها بالتكليف الشرعي

في الفقه الإسلامي، يُعتبر توفر الاستطاعة شرطًا من شروط التكليف، وتترتب عليها الأحكام التالية:

• مع وجود الاستطاعة: يصبح المكلف ملزمًا بأداء العبادة أو الفعل.

• مع انعدام الاستطاعة: يسقط التكليف، أو يُخفف، أو يُبدّل بحسب نوع العبادة.

مثال ذلك:

• من لا يستطيع الصيام بسبب المرض المزمن يفطر ويُطعم،

• من لا يستطيع الحج فلا يجب عليه،

• من لا يستطيع الصلاة قائمًا يصلي جالسًا أو مستلقيًا، وهكذا.

خامسًا: التطبيق الفقهي لمفهوم الاستطاعة في العبادات

في الصلاة:

الاستطاعة شرط في الأركان، كمن لا يستطيع القيام يصلي قاعدًا، فإن عجز صلى مستلقيًا، لقوله ﷺ:

“صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب” [رواه البخاري].

في الصيام:

قال تعالى:

﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 184]،

فالصيام مشروط بالاستطاعة البدنية وعدم وجود عذر شرعي كالسفر أو المرض.

في الزكاة:

الاستطاعة هنا تعني امتلاك المال النصاب الزائد عن الحاجة، وحلول الحول عليه، فلا زكاة على من لا يملك المال المستوفي لشروطها.

في الحج:

تتجلى أهمية الاستطاعة في الحج بشكل خاص، لأنها شرط للوجوب، وتشمل أنواعًا متعددة: مالية، بدنية، وأمنية. ولا يجب الحج على من لا يستطيع، ولا يُعد مفرطًا من لم تتوفر فيه الاستطاعة.

سادسًا: الفروق بين الاستطاعة في العبادات وغيرها

العبادات غالبًا ما يشترط فيها تحقق الاستطاعة كي تجب على المكلف، بينما في المعاملات فقد تُطلب القدرة كشرط للنفاذ أو الصحة، لكنها لا تُعد شرطًا دائمًا للتكليف ذاته، مما يجعل معيار الاستطاعة في العبادات أدق وأكثر حساسية.

مثال تطبيقي:

في البيع، لا يشترط أن يكون المشتري غنيًا ليستطيع الشراء، فقد يشتري بثمن مؤجل أو بالدين، في حين أن الحج لا يجب إلا بامتلاك نفقات السفر ذهابًا وإيابًا.

سابعًا: الاستطاعة والنية في العبادات

من الجوانب الدقيقة في فقه الاستطاعة، ارتباطها بالنية، فالمكلف لا يجب عليه نية العبادة إلا بعد تحقق الاستطاعة. ولهذا، فإن من لا يملك الزاد والراحلة لا يُطالب بنية الحج أصلًا، ويظل في حكم غير المكلف.

ثامنًا: أثر الاستطاعة في إسقاط الفروض والتخفيفات الشرعية

جاءت القاعدة الأصولية: المشقة تجلب التيسير، لتؤكد أثر الاستطاعة على تخفيف الأحكام الشرعية، وتتمثل هذه التخفيفات في:

• الإبدال: كإبدال الصيام بالإطعام.

• الإسقاط: كإسقاط الحج أو الجهاد لمن لا يستطيع.

• الترخيص: كإباحة الفطر للمريض والمسافر.

تاسعًا: الاستطاعة في أبواب الجهاد والمعاملات والحدود

في الجهاد:

قال تعالى:

﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ﴾ [التوبة: 91].

تُسقط الآية وجوب الجهاد عمن لا يملك الاستطاعة البدنية أو المالية، وهو ما يبرز رحمة الشريعة في هذا الباب الخطير.

في المعاملات:

الاستطاعة ليست شرطًا عامًا للمعاملات، ولكنها تدخل في شروط الصحة، كأن لا يبيع الإنسان ما لا يملك أو ما لا يقدر على تسليمه.

في الحدود:

الاستطاعة تُراعى في تطبيق الحدود، إذ لا تقام إلا على من ثبتت عليه الجريمة وثبوت قدرته العقلية على الإدراك والفعل، فلا حد على المجنون أو المكره.

عاشرًا: الجدول التفصيلي لأنواع الاستطاعة وأمثلتها

حادي عشر: الاستطاعة بين الفقهاء: مذاهب وتفصيلات

اختلف الفقهاء في بعض تفاصيل الاستطاعة، وخاصة في باب الحج، حيث نجد:

• الحنفية: يُشترط وجود الراحلة والزاد، ولا يجب الحج إن لم يجد الإنسان النفقة لمن يعول.

• المالكية: يُضيفون إلى المال والبدن شرط الأمان التام.

• الشافعية: يوسّعون في مفهوم القدرة البدنية والمالية معًا.

• الحنابلة: يؤكدون على وجوب الاستنابة لمن لا يستطيع الحج بنفسه.

ثاني عشر: الاستطاعة في ضوء المقاصد الشرعية

تأتي الاستطاعة كمبدأ أساسي في تحقيق مقاصد الشريعة، فهي أداة لحفظ النفس، ورفع الحرج، وتحقيق العدالة، ومنع التكليف بما لا يطاق، وهو مما يدل على أن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد لا لمجرد الامتحان أو المشقة.

خاتمة

يتبين من هذا العرض المفصل أن الاستطاعة ليست مجرد مفهوم فقهي تقني، بل هي ركن من أركان فهم التكليف في الشريعة الإسلامية. فهي تُجسّد توازنًا دقيقًا بين الأمر الإلهي وواقع الإنسان، وتفتح المجال أمام التيسير والرأفة في تطبيق الأحكام الشرعية. بل هي مفتاح لفهم فقه الاستثناءات، والبدائل، والمرونة في التشريع، مما يجعل الشريعة الإسلامية من أكثر النظم القانونية تكاملًا وواقعية.

المصادر والمراجع:

1. الشاطبي، “الموافقات”، دار المعرفة.

2. ابن قدامة، “المغني”، مكتبة القاهرة.